"عندما يصِحُّ عزم الرجال"،
وتلك حكايةٌ تجمّعتْ صفحاتُها من حلمٍ جماعي لازَمَ آلاف المواطنين ...
** تلك كانت افتتاحيةٌ لأولِ منشور لي فيما يخص المبادرة قبل ثمانية أشهر تقريباً؛
(المكان)، بني أحمد: وهي إحدى عزل مديرية فرع العدين التابعة لمحافظة إب، والعزلة هي: مسمّى إداري يضم العشرات من القرى والتجمعات السكنية،
وهي كغيرها من المناطق التي حُرمتْ من كافة المشاريع الخدمية الحقيقية الحكومية وغير الحكومية، بل كانت الأشد حرمانًا.
عشرات القرى سئمت الانتظار وهي ترقب إشارة ما، وآلاف المواطنين فاضت ذاكرتُهم من المآسي والحرمان والإهمال الذي يصل حد الإلغاء التّام في الذاكرة الرسمية.
ومن الصعب والمخجل جدّاً أن تعيش في مطلع القرن الواحد والعشرين، والذي أصبحت فيه الطريق والكهرباء والصحة شيئاً بديهياً في أساسيات الحياة، أن تعيش بدونها كأنّك في غياهب نفَقٍ مظلم.
في هكذا ضرورة كان لا بد للمواطن من ابتكار البديل (البديل الكامل).
فكرةٌ ما؛
تخَلّقتْ في رأس صاحبها، فكرةٌ طموحة لشابٍ، فشاركَه فيها آخرون.
لماذا لا نبادر لعملٍ ما؟ إصلاح الطريق مثلاً !
الطريق؟
نعم، الطريق.
أكاد أجزم هنا أن كثيراً من الشباب في سن الثلاثين لم يَعُدْ أحدٌ منهم يتذكر متى شاهد (دركتر) -وهي آلة لشقّ الطرق- في الطريق لإصلاحه، أمّا ما دون العشرين فلا يعرفوه أصلاً إلا من خلال وسائط أخرى.
إذاً فلا بد من (مبادرة)؛
فكانت:
#مبادرة_الأهالي_لرصف_الطرقات؛
المبادرة التي من خلالها سيتم إصلاح الطريق، فالطريق هو أهم الأولويات بالنسبة لسكان القرى المتناثرة على قمم الجبال بـبني أحمد، والتي لا يصلها الواصل إلا بشق الأنفس وكثيرٍ من العناء.
صحيحٌ أن التخوف كان موجوداً من فرضيّة عدم التجاوب الإيجابي من المواطن، ومن غير المنطقي القول بغير هذا، خصوصاً إذا ما نظرنا لما تعيشه البلاد برمّتها من حالة الحرب و الدمار، وأن المواطن ربما يجعل من لقمة عيشه وعائلته الغاية الأولى.
غير أنّ مؤسسي المبادرة لم يكنْ أمامهم سوى خوض التجربة بشجاعة ودون تردد.
إذاً، لنبدأ بفتح مجموعة عبر (الوتس آب)، ويتم إضافة أكبر عدد إليها كأعضاء من أبناء القرى،
وقد سميت المجموعة باسم المبادرة، وتمّ طرح الفكرة الوليدة والترويج لها بما هو متاح من وسائل التواصل الاجتماعي، وجمع التبرعات.
إلى هذا الجانب تأسست اللجنة الإشرافية للمبادرة،
وتعيين لجنة إعلامية للمبادرة،
وتأسيس صندوق لجمع التبرعات،
والدعوة للتبرعات الطوعية.
وهنا بدأت التبرعات تأتي تباعا، وتزداد يوما بعد يوم،
وكانت تُنشَر قائمة التبرعات بشكل فوري ومتواصل.
وعلى الفور تم الإعلان عن أول مناقصة، وفُتِحت لأول مرة المظاريف بتاريخ: [2016/7/30]،
والتي استهدفت أول طَلْعَة بأعلى جبل الثلث (طَلْعَة الحَدِيَّة)، وقد بدأ العمل الفعلي فيها بتأريخ:
[ 2016/8/20]،
وما أن بدأ الرصف في الحَدِيَّة يأخذ ملامح ضيفٍ في أعين مرتقبيه؛ أخذ الناس يشعرون بالاطمئنان، وإذا بالتنافس يأخذ شكلاً آخر متوازياً مع العمل اليدوي إلى جانب البذل المالي الطوعي، وكان آخرون يتبرعون بأشياء عينية: كتوفير الأحجار وأكياس الإسمنت وهناك من يقدمون الخدمات (اللوجستية)،
فبعض أصحاب السيارات لم يترددوا في تقريب الأحجار بدون أجر أحياناً، حتى وصل رصف طلعة الحدية إلى التمام.
وللحقيقة: فقد مثّلتْ طلعة الحَدِيَّة الاختبار الحقيقي للمبادرة واللجنة الإشرافية والصندوق على وجه الخصوص، وقد نجحوا في هذا الاختبار بشكلٍ لافِتٍ، وبجدارة استحقت الثناء، واستطاعت من خلال هذا النجاح إرسال رسالة طمأنة للمواطنين والمتبرعين من الأهالي والمغتربين تحديداً.
اللجنة الإعلامية للمبادرة هي الأخرى كان لها نجاحٌ ملموسٌ أيضاً من خلال الصور التشويقية للمغتربين من موقع الحدث، وهي تقرّبهم ليعيشوا الحدث بشكل متواصل.
فانطلقت سلسلة التبرعات بوتيرة عالية وبشكل غير مسبوق عن ذي قبل، وبدأنا نسمع بالمبالغ الكبيرة من ميسوري الحال من أبناء المنطقة ومن التجار، وكذا ارتفع إسهام المغتربين، وتضاعفت تبرعاتهم.
وفي أثناء رصف (طلعة الحَدِيّة)،
كان يجري رصف آخر، وهو رصف (طلعة الإمْرِيخ)، والتي تبنّاها أبناء الثلث بقيادة بسام الحميري.
ومع اللمسات الأخيرة في إتمام أعمال الرصف في أول طلعة؛
وهي طلعة الحَدِيَّة سالفة الذكر، بدأ رصف نقيل (شاطح الشمس)، والواقع أدنى جبل الثُّلْث، و كان أحد أبناء المنطقة فاعل الخير (وهو أبو ياسر قاسم عمر) -حفظه الله-، قد تكفّل بها مالياً.
وهذه العقبة أو هذا النقيل يُعَدُّ من أخطر الأماكن التي يسلكها المواطنون نحو جبل الثلث وقُرَاهُ، وقد تسبب بحوادث أليمة أدت إلى هلاك الأرواح وإتلاف الممتلكات،
وقد أعْيى المسافرين وأصحاب السيارات.
بالتوازي أيضاً كان أبناء وادي بَوْكَر يجهّزون عدتهم وعتادهم لرصف (طريق المركبة)؛ كمبادرة ذاتية تمويلاً و تنفيذاً.
ـ ـ ـ
التبرعات مستمرة دون توقف والنّهم العملي في أشُدّه.
ينتهي أبناء وادي بوكر بوقت قياسي مما تطوعوا به، و(شاطح الشمس) قارب على الاكتمال.
إذَا بأبناء النّجّارين ينقلون الأحجار من قريتهم البعيدة إلى جبل الثلث؛ حيث الطريق الرئيس، وقد اختاروا طلعةً فيه لرصفها، وتكفلوا بتمويلها أيضاً، وقد عُرِفتْ هذه الطلعة بـ (طلعة المدرسة).
وفي ذات الوقت كان أبناء قرية الشَّرَف يكسّرون الأحجار؛
استعداداً لرصف الطلعة التي تلي (طلعة المدرسة) مباشرة،
وتكفلو أيضاً بتمويلها وإسناد تنفيذها لأحد المقاولين.
(طلعة العَكْشَة) التي تحتضن مدرسة أبي بكر، بدأ رصفها متزامنا مع أعمال الرصف التي كانت تجري على قدم وساق في طلعة المدرسة.
وما أن انتهى العمل في طلعتي المدرسة والعكشة، حتى اشدت المنافسة، واستعرت حُمّى الرصف في القرى؛
فبدأت المبادرات المتفرعة، والتي تصب في النهاية في عنوان المبادرة الأم: (مبادرة الأهالي لرصف الطرقات).
وهكذا تحولت البلاد إلى ورشة عمل لا تعرف السكون.
فأهالي قرية المَدْهَف يرصفون (طلعة اللُّعَيْدان)،
وأهالي قرية المقطار يرصفون (طلعة القُرَيّات)،
وأهالي قرية حناهب يرصفون (طلعة المَدْرَجَة)،
و أهالي المقاديح يرصفون عقبة (يوسف مقبل)،
و أهالي قرية السهلة يرصفون (طريق السُّهَيلى)،
وأهالي المِزْحانة والشعب يرصفون في قراهم،
وأهالي قرية الشَّرَف إلى جانب ما تبنوه بالثلث يرصفون أيضاً طلعةً في قريتهم.
وفي خضم هذه الإنجازات كان أبناء الكُرَيبِيَة ووادي عُسَيق وغيرها يفاجئون الجميع بشق طريق طويل تنخر في الجبال بأدواتهم اليدوية البسيطة، وهذا الطريق يمتد من الكريبية وحتى قرية الذِّراع.
أبناء قرية المَنبَر وأصحاب السبق العملي في الحدية عادوا مرة أخرى يزيحون الستار عن مبادرة حصرية تمثلت بتبنّي طلعة القُحَيماء، ثم طلعة المَلَف في قرية المَنْبَر، ليس هذا فحسب، بل أزاحوا الستار عن أجمل عملٍ من حيث الهندسة المعمارية، بل وذهبَ فنانو المنبر يستعرضون مهارات التشكيل الفني والزخرفي، وقد أجادوا وأحسنوا وأتقنوا.
وعوداً إلى جبل الثلث الذي تجري فيه ملحمة الرصف، والذي يحوز الأولية؛
لِمَا لَهُ من أهمية الإستفادة العامة من الطريق هناك،
فقد تكفل أولاد المرحوم -بإذن الله- (أحمد يوسف) بتبنّي تمويل الرصف لِ ( طلعة الخَرِبَة) بالثلث.
وتبنّت أسرة المرحوم -بإذن الله- الشاب (إياد محمد علي دبوان)، والذي توفاه الله قبل أشهر قليلة، تبنّت طلعة أخرى؛ كصدقة جارية لابنهم، وقد سُميت باسمه: (طلعة إياد).
أما أبناء الثُّلْث السافل؛ فقد تبنّوا (طلعة النَّجْد)، وهي ثاني أطول عقبة تم رصفها في طريق الثلث بعد (شاطح الشمس)،
وقد عملوا فيها ليلَ نهارَ، وكانوا يتناوبون الأدوار حتى أتمُّوها بعد توقف يسير حصل بسبب العجز المالي.
ومن (طلعة النجد) تنتقل الإشارة مباشرة إلى نقطتين مهمتين، وهما:
(طلعة الدَّرْب) ،وتكفل بتمويلها وتنفيذها أهالي شَعْب خَلَف والدرب.
ونقطة أخرى بالغة الأهمية وفريدة الحدث، وهي:
(طلعة نقِيل الحَفِير) في قرية الذِّراع، وهذا الطريق يعتبر شرياناً حيوياً للعديد من القرى كـطَنُوحَة والشِّعْبَين وخُرْشُبة وشِقْران وغيرها.
هذه الطلعة لا نستطيع القول بأنها حصرية أو تخص المستفيدين منها، بل -من وجهة نظري- إنها يجب أن تحرك جهود الجميع.
صحيح أن أبناء الذِّراع والشِّعْبَين وشِقْران وطَنُوحَة والكُرَيبِيَة وغيرها داعمون أساسيون فيها، إلا أنه يجب أن تحضى باهتمام الآخرين وألا يغفلوا عنها.
ما يميز طلعة الحَفِير هو طولها، حيث قامت اللجنة بتقسيمها إلى ثلاث مراحل.
((واسمحوا لي هنا أن أتجاوز؛ بتخصيص شيء من الإيضاح خلافا لما سبق)).
وبما أن المبالغ المتوفرة لا تفي بالمهام فقد اهتدى القائمون إلى وسيلة أخرى، وابتكروا وسماً:
(#جُمعتُنا_غير)، وهو يعني: تخصيص يوم الجمعة للعمل المفتوح، وفيه يجتمع العشرات من أبناء القرى، ويعملون طوعًا في أعمال الرصف، و قد ثبت عمليا الحكمة في هذه الفكرة.
انتهت المرحلة الأولى من طلعة الحَفِير حتى الآن.
إلى هنا نحن أمام مبادرة منقطعة النظير تجاوزت ربما ما كان متوقعا.
* ماذا تعني المبادرة الأهلية لرصف الطرقات بالنسبة للأهالي؟
سؤال مهم جداً،
وللإجابة عليه يحتاج المرء لأخذ نفَس طويل وعميق، وأن يقول بأعلى صوته: آآآآه.
إن المبادرة التي بدأت بفكرة يتمية عزلاء مجردة، تحولت إلى شعاع طويــــل صادر من وهجٍ متقدٍ في قلب كل أبناء المنطقة، وصل لَمَعَانُه إلى مناطق عديدة، وأخرى بعيدة، فأخذتْها الغيرة، فبدأت تلك المناطق في مديريات المحافظة ومحافظات أخرى تتلمس منه، وتحذو حذوه.
مبادرة الأهالي تحولت في حياة المواطن إلى جزء في أساسياته اليومية وحديثه في المقيل.
مبادرة صارت كرنفالاً كبيراً وتجمعاً واسعاً، فمن خلالها وجد كلٌّ ضالته للتعارف بين الأهالي؛ خصوصاً وأننا نتحدث عن عشرات القرى يسكنها الآلاف.
المبادرة أخذت أيضاً بُعْداً ثقافياً، وصارت أشبه بالمنتدى الكبير؛
فمن خلاله تفجرت الطاقات، وانبعثت المواهب، فأظهرتِ الشعراء والكتاب والأدباء والفنانين بتنوعاتهم، وأصحاب الهوايات المختلفة في الرسم والتصميم.
و كانت محطّ طرح الأفكار وتبادل الأراء فيما يخدم المبادرة.
المبادرة أيضاً استدعت الذاكرة، خصوصاً ذاكرة أولئك المغتربين القدامى الذين ربما استقروا تماماً في مواطن اغترابهم، وقد كان لهم دور كبير وإسهام لا محدود في الدعم، بل لعلّ الكثير صاروا يفكرون لأول مرة بزيارة أهاليهم ووصل قرابتهم؛
وهذه نعمة من الله.
ـ ـ ـ
بإمكاننا أن نسأل:
ما أسباب نحاج المبادرة بهذا الشكل الكبير؟
سأتكفل بالطبع بالإجابة على هذا السؤال الافتراضي الذي طرحته على نفسي.
فلتعذروني!
1- من أهم أسباب نجاح المبادرة؛ هو أهمية الطريق بالنسبة للمواطن، فهو أَوْلى أولوياته.
2- القدر الكبير من الشفافية العامة التي تعاملتْ بها اللجنة الإشرافية، وحسن الإدارة؛ لأن الشفافية التي لمسها المواطنون و المغتربون هي التي أشعرتهم بالأمان على تبرعاتهم.
3- الحماس الشديد للشباب، وعودة الكثير من المهنيين إلى القرى بسبب الأحداث.
4- الابتعاد عن (الأنا) و(الأنانية) بنفْس الوقت،
والعمل بروح الفريق الواحد والجسد الواحد.
5- التوعية الإعلامية والجهد الإعلامي والدعائي؛
سواء ما قامت به اللجنة الإعلامية للمبادرة أو الجهد الفردي الذي قام به آخرون.
6- لأن المبادرة أهلية خالصة؛ فتعاون معها الجميع.
7- القدر الكبير من المسؤولية وتقبّل الآراء أثناء النقاش، خصوصاً ما كان يطرح في (مجموعة المبادرة بالوتسآب)، ومن الأهمية بمكان أن المجموعة الخاصة بالمبادرة كانت تحصر النقاش فقط فيما يتعلق بالمبادرة دون سواها مهما كان الأمر.
.. ....... ............ ...... .......
* كثيرون هم الرائعون، وكثيرون هم المبادرون، ونحن نتفرد بالنجاح.
الجميع عمل بإخلاص وجِد،
لقد شاهدنا في هذه المبادرة أجمل ما في الإنسان، وهو حب الخير، وحب الإيثار،
شارك الجميع بدون استثناء؛
المعلمون وأساتذة الجامعات والأعيان والشباب وغيرهم،
لم يأتِ أحدٌ من أجل وميض الكامرا أو لِيَراهُ الآخرون في الإطار.
الجميع قد قدم مهامّه بمسؤولية كبيرة.
إنه لمن الحيف والإجحاف ألا نقدر جهود أولئك الرجال من المسؤولين والمشايخ والأعيان؛ الذين ما كلّوا وما ملّوا وهم يتعهدون مواقع العمل هنا وهناك، ويسددون ويقاربون عند الحاجة،
نذكر لهم تعاونهم ومشورتهم.
لعلّي هنا أسرد مسيرة نجاح لا زالت تسير، و لم تنتهِ بعد، أسرد ما تم رصفه سرداً خفيفاً، بينما في تفاصيل كل طلعة قصص بطولات ومواقف يومية،
ولعلّ فرصة أخرى يكون الحديث فيها عن ذلك.
ما كان لهذه المبادرة أن تحقق هذا النجاح لولا جنود الظِّل.
ما كان لهذه المبادرة أن ترى النور ،ويصل صيتُها في الأرجاء لولا تَنُّورُ أمهاتنا وخبز أخواتنا وزوجاتنا و شاي الصبايا.
ما كان لهذه المبادرة أن تفرحنا لولا صبر شقيقات الرجال، وتجهيزهنّ ما يلزم، والدفع المعنوي واللوجستي للعمل،
فلَهنّ خالص الشكر والتقدير وعظيم الامتنان.
والفضل كل الفضل في الأول والآخر والظاهر والباطن وفي كل حالٍ هو لله وحده،
وبه تتم الصالحات،
وبه نستعين.